التعلُّم عن بعد... العدة والعتاد

 د.كاظم عبدالزهره*


يعد الاهتمام بالتعلم عن بعد حلا واقعيا للكثير من معوقات التعليم، فهو يتيح فرصا مختلفة للمتعلمين على اختلاف أعمارهم وقدراتهم وطموحاتهم وأماكنهم. لاسيما بعد أن كشفت جائحة "كورونا" عن ضعف استعداد العالم لمواجهة الكوارث التي تعيق التعليم الحضوري في البلدان النامية.

وقد عاش العراق أيام الجائحة تجربة صعبة وواجه اخفاقات مختلفة استمرت سنوات عدة تركت أثرا بالغاً على التلاميذ والطلاب في المدارس والجامعات، بل إن آثار تلك الاخفاقات في تقديم تعليم فعال عن بعد أضاف مشكلات أكثر تعقيدا إلى ركام المشكلات التي يعاني منها قطاع التعليم في العراق.

كما أن اهتمام الحكومة الظاهر بالتعليم عن بعد تحت ضغط الجائحة لم يترجم إلى برامج فعلية طبقت على أرض الواقع. 

أغلب تلك الاخفاقات تتعلق بطبيعة التعليم عن بعد وغرابته عن مجتمعنا التعلمي وحاجته إلى بيئة توفرعدته وعتاده. لم يكن التعلم عن بعد وليد أزمة جائحة "كورونا"، فالتعلم عن بعد ظهر قبل ما يقارب مئتي عام ثم تطور واستثمر في سياق نموه التكنولوجي والابتكارات ووظفها.

فهو أسلوب تعليمي سبق التعليم الالكتروني بعشرات السنين، ومن اللافت أنه عند ظهوره لم يكن ابدا مرتبطا بالتقنيات الرقمية أو التطور التكنولوجي. 

أول صورة له كانت (التعليم بالمراسلة) في عام 1833 حين أصدرت صحيفة سويدية اعلانا عن تعليم اللغة من خلال البريد، ويمكن أن يعد هذا تحولا مهما في مفهوم التعليم والتعلم. ثم قامت إدارة البريد البريطانية عام 1840 بالسماح لإسحاق بيتمان (Isaac Pitman) بتعليم طريقته في الاختزال من خلال المراسلة، وأسس لاحقا بعد 3 سنوات جمعية المراسلة التي تولت القيام بتقديم التعليم بشكل منظم من خلال الرسائل البريدية.

 وفي ألمانيا قاما تشارلز توسانت وغوستاف لانغنشايدت (Charles Toussaint & Gustav Langenscheidt) بتأسيس التعليم عن بعد باستخدام البريد من أجل تعليم اللغات.

 ثم تأسست في الولايات المتحدة الامريكية عام 1873 أول جمعية تشجع التعليم في البيت عبر البريد. إذ قامت "آنا اليوت تيكنور Anna Eliot Ticknor" بتأسيس جمعية تنمية الدراسات المنزلية وكانت رائدة في هذا المجال.

وبحلول عام 1891 أصبحت الدرجات العلمية تمنح من قبل كلية (شوتوكا للدراسات الحرة) لمن يكمل مقررات الدروس بنجاح عبر المراسلة، وكان البروفيسور "ويليام ريني هاربر   William Rainey Harper" يؤمن بأهمية التعليم بالمراسلة حد أنه تنبأ بمستقبل التعليم عن بعد بقوله الشهير:" سيأتي اليوم الذي يكون فيه العمل المنجز بواسطة المراسلة أكبر من كم العمل المنجز داخل الفصول الدراسية سواء في المعاهد أو الكليات عندما يحدث ويزداد عدد الطلاب الملتحقين ببرامج التعلم بالمراسلة عن أولئك الذين يدرسون في الفصول التقليدية".

وقد استمرت طريقة التعليم عن بعد باستعمال المراسلة بالنمو والانتشار في الجامعات والبلدان المختلفة، حتى أصبح هذا النوع من التعليم متوفرا في أغلب الجامعات وجزءاً أساسياً منها وحقق نجاحا باهراً وتخرج عبره آلاف المتعلمين.

ويتضح لنا من خلال ذلك مدى أهمية التعلم عن بعد لاسيما بعد أن حقق أهدافه التعليمة وأصبح جزءا من أنظمة التعليم في الدول المتقدمة واعتادت عليه المجتمعات هناك وأصبح معروفا، لأنه متاح للجميع وبشتى الأعمار، كما يتضح لنا أيضا "بأن التعليم الالكتروني ما هو إلا وليد نشأ وتطور في أحضان مفهوم التعليم عن بعد الذي كان يستعمل البريد العادي في التواصل ثم شرع باستخدام طرق التواصل الأخرى حال ظهورها بدءا باستعمال البث التلفزيوني ووصولا إلى استعمال الأجهزة الذكية الحديثة في عصرنا الحالي".

وفي الدول المتقدمة، يُنظر إلى التعليم عن بعد نظرة إيجابية، ومع توفر البنية التحتية اللازمة لم يواجه في تلك البلدان عوائق كالتي واجهها في العراق. فأول معوقاتها غرابته عن مجتمعاتنا التعليمية التي تخلط بينه وبين التعليم الإلكتروني ثم غياب البنى التحتية اللازمة لتطبيقه.

 ولابد من أجل تطبيق تعليم فعال ان يكون تمويل التعليم أولوية قصوى لدى الحكومة، وأن تعمل على تحسين البيئة التعليمية من خلال تبني التحول الرقمي وتوفير البنية التحتية للمدارس، وإزالة كل المعوقات الأخرى التي تعيقه.

غير أن الواقع كما يبدو أن هذه المعوقات ستظل قائمة وستقف في وجه تحقيق اِلتزامات العراق في تطبيق الهداف الرابع من أهداف التنمية المستدامة عام 2030.

 

*مدير المركز العراقي لثقافة الطفل

نشر في جريدة الصباح العراقية في 23/10/2024

https://alsabaah.iq/104605-.html