العلم، والخيال العلمي

د. كاظم عبدالزهره 

غالبا ما يضع العلم قيودا في الطرق التي نفكر بها ويرسم حدودا واضحة لتفكيرنا نطلق عليها تسميات شتى منها أصول البحث ومناهجه، مجموعة من الإرشادات والدلالات التي ترشد الباحث في طريق بحثه.

على عكس الآداب والفنون التي تعمل على كسر القيود لتقدم لنا كل ما هو مدهش أو غريب، بل أن الأعمال الأدبية والفنية التي تلد خارج أفق توقعاتنا تكون أكثر دهشة وأشد أثراً علينا.

يكوّن المبدع الصورَ الذهنية الجديدة من ذاكرته اعتمادًا على خزينه المعرفي ويحاول عبر موهبته وخياله ومهاراته أن يقدم لنا أفكارا جديدة، في لوحات، قصائد، روايات، أفلام. والمألوف أن تلد صور الابداع تلك من ضمن الأفق المنظور والمتوقع، ونادرا ما يقدم المبدع صورا جديدة تكسر التوقع، وتؤسس تحولا في اتجاهات الأدب والفن.

فالتحرر من القيود التي تفرضها الأنماط الفنية والأدبية -على شكل معايير تقاس بها جودة النتاجات- قيود يصعب تجاوزها لاسيما عندما تتحول نفسها إلى  أهداف يسعى المبدع إليها. ولا تحدث تلك الطفرة في الإبداع إلا حين يحرر المبدع خياله تماما من المعايير التي تصنف لون النتاج وتمنحه هويته.

والغريب أن العلم الذي يخضع طرق التفكير إلى  قيود المنطق ينطلق أحيانا من صور خيالية لأفكار غير مألوفة منافية للواقع والمنطق والعقل.

منها على سبيل المثال نتاجات الخيال العلمي الأدبية والفنية، التي الهمت العلم الكثير من الابتكارات في شتى ألوان العلوم والتكنلوجيا، فالعديد من المهندسين والعلماء يعتبرون الخيال العلمي مصدرا رئيسيا للإلهام.

ولطالما سبقت قصص الخيال العلمي في تقديم أفكار خيالية غريبة تحولت إلى  واقع. هناك الكثير من الأفكار التي قدمتها سلسلة أفلام "ستار ترك" الشهيرة منها فكرة الهاتف الذكي، وفكرة الأجهزة اللوحية التي ظهرت بشكل يشبه الاي باد الان، كما ظهر في تلك السلسلة أيضا جهاز كان اسمه Universal Translator يقوم بالترجمة الفورية مثل أجهزة الترجمة الحديثة اليوم.

فكرة الأقمار الصناعية الجغرافية الثابتة التي وردت أولا في إحدى مقالات كاتب الخيال العلمي "آرثر تشارلز كلارك" عام 1945 والتي أدت إلى  تطوير الأقمار الصناعية الحديثة في مجال الاتصالات.

كما ان قصص الخيال العلمي المصورة الكثيرة التي كان موضوعها السفر إلى  الفضاء والقمر والكواكب الأخرى الهمت المهندسين أفكار العمل على تطوير برامج الفضاء.

وظهرت في حقل الخيال العلمي أيضا أفكار عديدة في مجالات مختلفة تحققت لاحقا في الواقع مثل فكرة الطيارات بدون طيار التي ظهرت في قصص خيالية كثيرة، والهواتف الذكية القابلة للطي التي ظهرت عام 1982 في فلم الخيال العلمي (Blade Runner) بل إن هذا الفيلم كان له تأثير على الكثير من الأفلام الأخرى وألعاب الفيديو والمسلسلات، ويعد ذا أهمية ثقافية وتاريخية وجمالية، حتى انه حُفظ في السجل الوطني لمكتبة الكونغرس عام 1993. فكرة الزراعة العمودية التي بدأت بالانتشار الآن في المدن ظهرت أول مرة في روايات الخيال العلمي، كما فكرة الواقع المختلط التي طرحتها القصص الخيالة قبل أن تستخدم في الألعاب والتعليم.

خدمة الذكاء الاصطناعي المتقدم الذي يمكنه التفاعل مع الإنسان وتقديم الخدمات اليه ظهرت هي الأخرى في الأفلام والقصص قبل أن تصبح واقعا.

كذلك الأفكار المتعلقة بالروبوتات التي تساعد الإنسان في أعماله، ومنها الروبوتات التي تقوم بالأعمال الطبية الدقيقة قبل أن تكون واقعا ظهرت في قصص الخيال العلمي.

الغواصات والمروحيات والصواريخ والانترنت والمنازل الذكية والاتصال بالفيديو والطابعات ثلاثية الأبعاد والواقع المعزز والملابس الذكية والعديد من الابتكارات العلمية والتكنولوجية كانت صورا ذهنية، أفكاراً تحولت إلى  روايات ورسوم وحكايات كنا نطلق عليها خيالا علميا قبل أن تصبح اليوم واقعا حقيقياً، وكان الأعمال الفنية والأدبية تنبأت بها وسبقت العلم في معرفتها، بل مهدت للإنسان فهمها واستقبالها بوقت طويل.

رابط المقال المنشور في جريدة الصباح يوم 29/10/2024:

https://alsabaah.iq/104892-.html